ثالثا: تشهد الأمور الكونية المقسوم بها في القرآن الكريم للخالق( سبحانه وتعالى)بطلاقة القدرة, وكمال الصنعة, وتمام الحكمة, وشمول العلم, ومن هنا
فلابد لنا من إعادة النظر في مدلولاتها كلما اتسعت دائرة المعرفة
الإنسانية بالكون ومكوناته, وبالسنن الإلهية الحاكمة له حتى يتحقق وصف
المصطفي( صلى الله عليه وسلم) للقرآن الكريم بأنه: لا تنتهي
عجائبه, ولا يخلق علي كثرة الرد, وحتى يتحقق لنا جانب من أبرز جوانب
الإعجاز في كتاب الله وهو ورود الآية أو الآيات في كلمات محدودة يري فيها
أهل كل عصر معني معينا, وتظل هذه المعاني تتسع باتساع دائرة المعرفة
الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد, وليس هذا لغير كلام الله.
رابعاً: بعد القسم بكل من الخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس يأتي جواب القسم:
إنه لقول رسول كريم( التكوير:19)ومعني جواب القسم أن هذا القرآن الكريم ـ ومنه الآيات
الواردة في مطلع سورة التكوير واصفة لأهوال القيامة, وما سوف يصاحبها من
الأحداث والانقلابات الكونية التي تفضي إلي إفناء الخلق, وتدمير
الكون, ثم إعادة الخلق من جديد ـ هو كلام الله الخالق الموحي به إلي
خاتم الأنبياء والمرسلين(صلى الله عليه وسلم) بواسطة ملك من ملائكة
السماء المقربين, عزيز علي الله( تعالى), وهذا الملك المبلغ عن الله
الخالق هو جبريل الأمين( عليه السلام), ونسبة القول إليه هو باعتبار
قيامه بالتبليغ إلي خاتم الأنبياء والمرسلين(صلى الله عليه وسلم).
خامسا: إن هذا القسم القرآني العظيم جاء في سياق التأكيد علي حقيقة الوحيالإلهي الخاتم الذي نزل إلي خاتم الأنبياء والمرسلين(صلى الله وسلم
وبارك عليه وعلي آله وصحبه أجمعين وعلي من تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم
الدين), والذي جاء للناس كافة لينقلهم من ظلمات الكفر والشرك والضلال
إلي نور التوحيد الخالص لله الخالق بغير شريك ولا شبيه ولا منازع, ومن
فوضي وحشية الإنسان إلي ضوابط الإيمان وارتقائها بكل ملكات الإنسان إلي
مقام التكريم الذي كرمه به الله, ومن جور الأديان إلي عدل الرحمن, كما
جاء هذا القسم المؤكد بشيء من صفات الملك الذي حمل هذا الوحي إلي خاتم
الأنبياء والمرسلين(صلى الله عليه وسلم), وعلي شيء من صفات هذا النبي
الخاتم الذي تلقي الوحي من ربه, وحمله بأمانة إلي قومه, رغم معاندتهم
له, وتشككهم فيه, وادعائهم الكاذب عليه(صلى الله عليه وسلم) تارة
بالجنون( وهو المشهود له منهم برجاحة العقل وعظيم الخلق), وأخري بأن
شيطانا يتنزل عليه بما يقول( وهو المعروف بينهم بالصادق الأمين), وذلك
انطلاقا من خيالهم المريض الذي صور لهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالنظم
الفريد, وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد. وقد تلقي رسول
الله(صلى الله عليه وسلم) كل ذلك الكفر والجحود والاضطهاد بصبر وجلد
واحتساب حتى كتب الله تعالى له الغلبة والنصر فأدي الأمانة, وبلغ
الرسالة, ونصح البشرية, وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين.
وتختتم سورة التكوير بالتأكيد علي أن القرآن الكريم هو ذكر
للعالمين وأن جحود بعض الناس له, وصدهم عنه, وإيمان البعض الآخر به
وتمسكهم بهديه هي قضية شاء الله تعالى أن يتركها لاختيار الناس وفقا
لإرادة كل منهم, مع الإيمان بأن هذه الإرادة الإنسانية لا تخرج عن مشيئة
الله الخالق الذي فطر الناس علي حب الإيمان به, ومن عليهم يتنزل هدايته
علي فترة من الرسل الذين تكاملت رسالاتهم في هذا الوحي الخاتم الذي نزل به
جبريل الأمين علي قلب النبي والرسول الخاتم(صلى الله عليه وسلم), وأنه
علي الرغم من كل ذلك فإن أحدا من الناس ـ مهما أوتي من أسباب الذكاء
والفطنة ـ لا يقدر علي تحقيق الاستقامة علي منهج الله تعالى إلا بتوفيق من
الله. وهذه دعوة صريحة إلي الناس كافة ليطلبوا الهداية من رب العالمين
في كل وقت وفي كل حين.والقسم بالأشياء الواردة بالسورة هو للتأكيد علي
أهميتها لاستقامة أمور الكون وانتظام الحياة فيه, وعلي عظيم دلالاتها
علي طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعتها وصرفت أحوالها وحركاتها بهذه الدقة
المبهرة والإحكام العظيم.