مهارة كتابة موضوع إنشائي متكامل حول نص شعري " قصيدة أثريت مجدا " لمحمود سامي البارودي نموذجا - الفئة المستهدفة : الثانية باكالوريا آداب و علوم إنسانية
- الفئة المستهدفة : الثانية باك علوم إنسانية
- الموضوع : قصيدة " أثريت مجدا " للبارودي
- إعداد أستاذ مادة اللغة العربية : عزيز سشا
يمثل عصر النهضة العربية نقطة تحول في مسار القصيدة العربية، انطلاقا من طور الصنعة والبديع إلى طور البعث و الإحياء، حيث اشتدت الرغبة في العودة إلى الأصول التراثية باعتبارها نماذج تحتذى و منطلقا أساسيا للإنعتاق من قيود الركود و الانحطاط . و يعد محمود سامي البارودي أحد الرواد الأوائل الذين كان لهم الفضل الكبير في إحياء الشعر العربي ، و قد تبوأ هذه المكانة الرفيعة نظرا لمجموعة من السمات الفنية و الإبداعية التي اجتمعت في شعره ، و نظرا لعوامل أخرى ارتبطت بنشأته في بيئة محافظة و اتصلت بشغفه الشديد بالشعر الذي تغنى فيه بفروسيته و شجاعته و خصاله، و ضمنه عواطفه الوطنية الصادقة، و لواعج حرقته في منفاه البعيد بجزيرة " سرنديب " و أشواقه الحارة إلى وطنه و أهله...فإلى أي حد كان هذا الشاعر ممثلا للتراث الشعري القديم ؟ و ما الخصائص التي التزم بها و سعى إلى بعثها و إحيائها ؟ و ما حدود تقيده بعمود الشعر العربي ؟
إن المتأمل في هذه القصيدة يدرك منذ الوهلة الأولى أن شكلها لا يتباين في شيء عن القصيدة العربية القديمة، إذ هي من الشعر العمودي الذي يتأسس على نظام الشطرين المتناظرين " صدر و عجز " و وحدة الوزن و القافية و الروي، كما أن قراءة البيتين الأول و الأخير تفضي بنا إلى افتراض مفاده أن الشاعر قد تجاوز المقدمة الاستهلالية " الغزلية أو الطللية " نظرا لهول الفاجعة و قوة المصاب الذي ألم به ، من هنا نجده في البيت الأول يفجر لحظة الألم و المعاناة ، بينما يجعلنا في البيت الأخير أمام قوة الأمل و انفراج الأزمة و تجاوز المحنة .
و لكي نتأكد من ذلك يتوجب علينا تقسيم النص إلى وحداته الأساسية كما يلي :
-الوحدة الأولى : و تضم البيتين الأول و الثاني، و ضمنها يبكي الشاعر و هو يكابد آلام الشوق و لفحات الحنين التي تعتمل في باطنه.
-الوحدة الثانية : و تضم الأبيات " 3 – 4 – 5 " ، و فيها يلتمس الشاعر من عذاله عدم لومه و عتابه لأن الحب قد خرج على نطاق سيطرته إلى حد عجز معه التحكم في مشاعره.
-الوحدة الثالثة : و تتحدد من البيت 6 إلى البيت 10 ، و ضمنها يركز الشاعر على إمعان الدهر في تأجيج لواعج الشوق و الغرام الشيء الذي ضاعف من معاناته و ألمه.
-الوحدة الرابعة : و تتأطر ما بين البيت 11 و البيت 14 ، و فيها يضعنا الشاعر أمام تأجج نار شوقه و لوعة حنينه للأحبة و الأهل و الوطن بفعل قسوة البعاد و الغربة و الوحدة.
-الوحدة الخامسة : و تضم الأبيات المتبقية " ب 15 ، ب 16...ب 20 " و فيها يعود الشاعر إلى الافتخار بمناقبه و خلاله و الاعتزاز بكبريائه الصامد في وجه صروف الدهر و محنة الغربة و العشق ، فهو قوي الإرادة ، شديد العزيمة لم تزده الآلام إلا تشبثا بالقيم و الخصال النبيلة.
و لا ريب أننا من خلال هذا الفهم المختزل لمضامين القصيدة ندرك مظاهر تأثر الشاعر بالقصيدة القديمة على مستوى الغرض ، و يتجلى هذا التأثر و الانصهار في تعدد الأغراض التي تتأرجح بين الشكوى و الاستعطاف و المكابدة ثم الفخر.
و قد استعان البارودي في التعبير عن هذه الأفكار بمعجم شعري تتميز ألفاظه بالقوة و الجزالة و المتانة و الفخامة ، محتذيا في ذلك بالمعجم الشعري القديم كما أن هذه الألفاظ تتوزع بين حقلين دلاليين هما :
أ – حقل المعاناة : دمع – مكابدة – العذل – النوب ...
ب – حقل الصبر و التفاؤل : أثريت مجدا – لم أعبأ – نفسا عالية – ملكت حلمي – سوف تصفو الليالي ....
و العلاقة بين هذين الحقلين الدلاليين تكمن في تأرجح الذات الشاعرة بين مشاعر الضعف التي يعكسها الحقل الأول و مظاهر القوة التي يمثلها الحقل الثاني ، ذلك أنه رغم شدة وطأة لحظات الضعف و الانهيار فالشاعر ظل قويا صلبا متطلعا إلى الأفق المنشود مما يعكس إرادته القوية في مواجهة المحن ، و لعل هذه الإرادة و ذلك الشموخ النفسي هو ما جعل القصيدة تزخر بالطابع الحكمي الوعظي ، حيث نلفي مجموعة من الحكم في الأبيات التالية : البيت 1 – البيت 4 – البيت 16 – البيت 20 ( انظر محتوى الحكم في دفتر الدروس ) .
و إذا انتقلنا إلى دراسة الصورة الشعرية في هذه القصيدة سنجدها صورة تقليدية تترسم طريقة الشعراء القدامى في التصوير ، و ذلك من خلال قيامها على أساس مبدأ التجسيد و التشخيص أي تجسيد و تشخيص العناصر المجردة من قبيل : الشوق و الغربة و الدهر...بفضل استثمار الاستعارات و التشبيه ، كما نجد ذلك بوضوح في البيت التاسع حيث يشبه الشاعر قلبه بطائر سجين يخفق بجناحيه ( فالعلاقة الجامعة بينهما هي السجن و الاضطراب ) ، و يورد أيضا ضمن هذا البيت استعارة مكنية " هاج الغرام " لتبيان شدة العشق و الحنين.
و سواء في هذين المثالين أو في الأمثلة الأخرى التي يعج بها هذا النص الشعري فإن الشاعر يعتمد على الصورة البيانية المادية الوصفية البسيطة التي يستقي مادتها من الواقع المحسوس على غرار القدماء.
و بانتقالنا في الأخير إلى دراسة الإيقاع الشعري ، سنجده يتجسد في مظهرين أساسيين هما :
1 – الإيقاع الخارجي : و هو ما نلمسه في البحر الشعري الذي نظم عليه الشاعر قصيدته و هو بحر " البسيط " الذي يمتاز بتعدد تفعيلاته و طول نفسه ، و هذا يتناسب مع موضوع القصيدة سواء في المقدمة الاستهلالية " الشكوى " أو في الاستعطاف و المكابدة و الفخر. و بالإضافة إلى الوزن الشعري يتعزز الإيقاع الخارجي بالقافية و وحدة الروي " الباء " فضلا عن ظاهرة " التصريع " ( تصريع المطلع ).
2 – الإيقاع الداخلي : و يتحقق من خلال طبيعة الأصوات و أشكال التكرار و التوازي ، و فيما يلي رصد لهاتين الظاهرتين :
أ – ظاهرة التكرار : * على مستوى الصوت الواحد ( تكرار صوت الميم و القاف و الشين و الجيم...) - * على مستوى اللفظة الواحدة ( تكرار كلمات : دمع- قلب – الحب – عهد – النفس – كيف...) .
ب – ظاهرة التوازي : * التوازي الصوتي التركيبي الجزئي و الدلالي بصيغة الترادف ( البيت 1 و البيت 10 ) - * التوازي الدلالي بصيغة التضاد ( البيت 20 ) - * التوازي التركيبي بصيغتي الترادف و التضاد ( البيت 14 ) .
و الجدير بالذكر أن التكرار و التوازي لا ينحصران في كونهما ظاهرة إيقاعية فحسب و إنما يؤديان مجموعة من الوظائف التي تخدم النص الشعري و في مقدمتها الوظيفة الجمالية التي تتحقق من خلال إثراء الجانب الموسيقي للنص ، و تترتب على هذه الوظيفة وظيفة أخرى هي الوظيفة التأثيرية ، ذلك أن الشعور بالجمال من شأنه أن يؤثر في نفسية المتلقي فيجعله ينفعل بالشعر و يتفاعل مع الشاعر.
و بناءا على ما سبق، نخلص إلى أن القصيدة قيد الدرس قد تمثلت أيما تمثل لخصائص و مقومات الاتجاه الإحيائي و ذلك من خلال المستويات التالية :
*على مستوى البناء : الالتزام بنظام الشطرين ، غياب الوحدة العضوية ، الحفاظ على الشكل الهندسي التقليدي.
*على مستوى الغرض : تعدد الأغراض من خلال مقدمة استهلالية (الشكوى ) ، و مكابدة الأشواق و الغربة ، ثم الفخر.
*على مستوى المعجم : معجم تقليدي بامتياز " مكابدة ، لواعج ، منقضب ، حدب..."
على مستوى الصورة الشعرية : تشخيص المجردات ( الشوق ، الدهر ، الغربة...) بفضل الاستعارات و التشبيه.
*على مستوى الإيقاع : الالتزام بالإيقاع الخليلي ( وحدة الوزن و القافية و الروي ).
أما على مستوى وظيفة الشعر فإنها وظيفة تتوخى الإفادة أكثر من الإمتاع و ذلك من خلال جنوح الشاعر في كثير من الأبيات إلى الحكمة و الموعظة و الإرشاد ( تأثره بالنزعة الإصلاحية ).
و لعل قدرة الشاعر على احتذاء الشعر القديم جعلته يتسنم كرسي الريادة الشعرية في المدرسة الإحيائية ، و هي المدرسة التي من أبرز سماتها و مميزاتها الصياغة المتقنة و مجاراة الشعراء القدماء و محاكاتهم شكلا و مضمونا.